لقد مدح الله – سبحانه وتعالى – العلم وأهله ؛ وحثَ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة.
فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلَ العبادات - عبادات التطوع - لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله ؛ فإن دين الله – عز وجل – إنما قام بأمرين :
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان
فلا بد من هذين الأمرين ؛ ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعاً ؛ والأول منهما مقدًم على الثاني ؛ ولهذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يغيٌر على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله - عز وجل – فيكون العلم قد سبق القتال.
قال تعالى: ()أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ))[الزمر: ٩]فالاستفهام – هنا- لابد فيه من مقابل : أمن هو قائم قانت آناء الليل والنهار , أي كمن ليس كذلك ؛ والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به ؛ فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجداً أو قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو ومن هو مستكبر عن طاعة الله ؟
الجواب: لا يستوي ؛ فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة , هل فعلُهُ ذلك عن علم أو عن جهل ؟ الجواب : عن علم ؛ ولذلك قال: (( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب )) [الزمر: ٩] .
لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى ؛ العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور ؛ العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )) [المجادلة: ١١].
ولهذا نجد أن أهل العلم محل الثناء ، كلما ذُكروا أثنى الناس عليهم ؛ وهذا رفع لهم في الدنيا ؛ أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما علموا .
إن العابد –حقًا- هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق ؛ وهذه سبيل النبي -صلى الله عليه وسلم- ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) [يوسف: ١٠٨]
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهران؟
أيهما أبلغ في تحقيق العبادة ؟ رجل يتطهر لأنه علم أن الله أمر بالطهارة وأنها هي طهارة النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ فيتطهر امتثالاً لأمر الله واتباعاً لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ أم رجل آخر يتطهر لأن هذا هو المعتاد عنده ؟ .
فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحداً ؛ لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله ـ عز وجل ـ ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول -صلى الله عليه وسلم- ؛ وأقف عند هذه النقطة وأسأل هل نستشعر عند الوضوء بأننا نمتثل لأمر الله – سبحانه وتعالى- في قوله : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن )) [المائدة: ٦].
هل الإنسان عند وضوئه يستحضر هذه الآية وأنه يتوضأ امتثالاً لأمر الله؟ .
هل يستشعر أن هذا وضوء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه يتوضأ اتباعاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
الجواب: نعم ؛ الحقيقة أن منا من يستحضر ذلك ؛ ولهذا يجب عند فعل العبادات أن نكون ممتثلين لأمر الله بها حتى يتحقق لنا بذلك الإخلاص وأن نكون متبعين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
نحن نعلم أن من شروط الوضوء النية ؛ لكن النية قد يراد بها نية العمل -وهذا الذي يبحث في الفقه - وقد يراد بها نية المعمول له , وحينئذٍ علينا أن نتنبه لهذا الأمر العظيم، وهي أن نستحضر -ونحن نقوم بالعبادة- أن نمتثل أمر الله بها لتحقيق الإخلاص ؛ وأن نستحضر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلها ونحن له متبعون فيها لتحقيق المتابعة ؛ لأن من شروط صحة العمل الإخلاص والمتابعة , اللذين بها تتحقق شهادة أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
نعود إلى ما ذكرنا –أولاً- من فضائل العلم ، إذ بالعلم يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فيتعلق قلبه بالعبادة ويتنور قلبه بها، ويكون فاعلاً لها على أنها عبادة لا على أنها عادة ؛ ولهذا إذا صلى الإنسان على هذا النحو فإنه مضمون له ما أخبر الله به من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء